في لمحة مبالاة، حين تخطئ اللاجدوى طريقها نحو الوجود، يهسهس القلب منكمشا على آماله :
يا لك من خريف
باسم الزهر/الحب تمزقني
توجعني هذي القشة، تحترق
آه، كم تشبهني
أجتر موسيقى “شوبان” نفس المقطوعات الحالمة، هادئة وأنيقة، لا تعبر عن أفقي الممتلئ بالرماد إلا نادرا في بعض التواءاتها المستغربة… لا أجد سببا يحملني لطقوسها الهلامية غير خيط نحيف يمتد إلى من متقدم الذاكرة… كما لا أجد سببا يحملني لغيرها، لطالما كنت فاشلا في فك التناصات و الإسقاطات الشعورية، لست خبيرا بشؤون النفس، ولست عاشقاً كي أصف العواطف والذكريات أسوة بها على أوراق مزهرة، ونادرا ما أضحت تتسلل فراشة الموسيقى إلى مزاجي…
لكن ثمة شيء ما خفي يقذف بي كل حين إليها، أتراه التملص من ذلك الهوس التراجيدي المجنون الذي يسكنني ولا أجد حيزا للفراغ منه ؟ الذات والعالم ونوستالجيا الإمتداد والكشف والمعنى، وذلك الحمل المضني الذي لا يطفق ينفجر أو يتلاشى مخاضه في ركن عفن… أم تناوش تلك العدمية السوداء و عشرات الأقداح التي لا تمنح للوعي تجديفة للطفو…
لقد كانت على سبيل التعثر سقطة جميلة… ولطالما أخفيت ما يبعث على الثمالة الدائمة بعبارة البقر الكسول “لاجدوى من الوجود”…
لقد كانت قهقهات العبث لا ترتاح إلا في وجوه متخنة بالألم، وكانت عادة السمر تحمل المتشائمين مثلي إلى ضفاف السواد أو إلى الأسود القاتم عينه…
تعلمت ما يكفي من الأخلاق كي أقول أن الخيانة تلبية لنداء الطبيعة وأن الصداقة أقل من طعنة من الخلف أو كما يحلو لهم وصفها، كنت أؤمن أن كانت الصرخة الأولى و ستظل الباعث، المسيطر، وأن هاته الظلال كلها خدعة الضوء أو ربما هذا الضوء كله خذعة الظلال…
أكتب كي أتقمص ذكرى ذلك المساء… لم يكن الغيم وفيا كعادته، أذابت شمس الظهيرة ما يحمل جبيني من نخاسة الملامح وعدت أسرع مما أتيت إلى وكري الشاحذ بالخطيئة و الموسيقى…كنت عاريا أمامك أكثر مما كنت… و لم تكن نرجسيتي حليفة القدح الثالث… تجاهلت “شوبان” بما يكفي كي ألتوي على خصرك… كانت عيناك دافقتان بالمجهول، و كنتِ أبلغ من غموضي المعتم، و السر الوحيد المفشى كانت جمرة لست أدري كيف ذابت في فمي…
لو كنت شقراء كان ربما سيكون للمقطوعة مقامات أخرى، و كانت عيناك زرقاوان كان سيغدو للنبيذ طعما بلذة الغرق، لو كان صوتك أرق قليلا و أصفى لكان المساء قد أعلن انتحار أول صنم و انفجرت أولى الشهقات و بزخت أولى شقوق الإنهيار لهذه العزلة التي تقبع هذا القبو المفتون بالظلام…
لكن ثمة ما لا يحتاجه الوجود كي يصير أكثر تفاهة و ابتذال، أن تحاول بنَفَس العراف و أن تلمع المصباح ولا تكون أقل نسبية منه… لم تكن خيبة أمل… كانت أقل من تجاهل مؤقت لمعنى الفراغ…
الآن مقطوعات “شوبان” مريضة أكثر من أي وقت مضى ولا تستطيع جرف قمم الصدأ عن صدري، لا تقوى تزيح الغمام عن هدب الشجر ولا أن تنكش الغبار للعبارة على الرق… حشوة واحدة للغليون تكفيني لإستعارة كل الكآبة الملقاة على ملامح الكون…
لست عاشقا كي أباغت الحب، و لا شاعراً كي أبسط معناه… و ليست السعادة مهنتي، و لا أنا ذلك الحيوان الأخلاقي حتى،
بالكاد أستطيع أن أنفخ في جسدي كي أزاول حواري عن الفناء و الوحدة مع الحزن/المعنى…
هشام محب