اليهود المغاربة: من الملاح إلى حكم إسرائيل وصناعة القرار الدولي

رشيد العزوزي

عاش اليهود المغاربة منذ قرون خلت في وطنهم جنبًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين، دون مشاكل تذكر، ولم يخطر ببال يهودي أو يهودية أنه سيغادر أرض الأجداد إلى “أرض الميعاد” التي قرأ عنها في التوراة، لولا تغيرات سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية، عرفتها أوروبا خلال القرن التاسع عشر، كان لها بالغ الأثر على يهود العالم، وليس المغاربة فقط.

جذور اليهود المغاربة

أرجع المؤرخ المغربي (اليهودي) حاييم الزعفراني التواجد اليهودي في المغرب إلى ما يناهز 28 قرنًا، حيث تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن هدم الهيكل الأول المنسوب للنبي سليمان عام 586 ق.م، نتج عنه لجوء عدد كبير من اليهود إلى المغرب.

هذا المجيء كان مع البحارة الفينيقيين، وتمركز حضور هذه المجموعات العبرية خصوصًا في منطقتي وليلي وشالة، حسب ما تؤكده الآثار والنقوش، بالإضافة إلى أخبار التلمود وبعض الأحبار، كما ذهب إلى ذلك العديد من الباحثين في التاريخ القديم.

ومع ذلك، فالهجرة الأهم تعود لعام 1492، عام سقوط غرناطة، آخر معقل إسلامي في الأندلس، بعد ثمانية قرون من التواجد في أوروبا، عقب سيطرة الملك الإسباني فيليب الثالث الذي أصدر عام 1609م قرار طرد اليهود، بعد محاولات تنصيرية فاشلة. ونظرًا للقرب الجغرافي من المغرب، فقد احتضنت مدن “شفشاون”، و”الصويرة”، و”فاس”، و”سلا” أغلب هؤلاء المرحلين الذين اتخذوا لهم أحياء خاصة، سميت بـ”الملاح”.

والملاح حسب الأستاذ جمال حمدان، في كتاب اليهود أنثربولوجيًا، هو “الحي الذي يقطنه اليهود بالمغرب، ويمثل مؤسسة سكانية واقتصادية تزاول فيها الأنشطة التجارية والحرفية كافة، كما ساهم في الحفاظ بشكل كبير على الخصوصية اليهودية لمئات السنين”، باستثناء مدينة وجدة حيث اختلط اليهود والمسلمين في أحياء واحدة.

وفي المقابل، نجد الملاح في إسبانيا بالعصر الوسيط يسمى “اليوديريا” و”الجيتو” في أغلب دول أوروبا والأمريكيتين، ويسمى في ألمانيا بـ(judengasse)، أما في العراق فيطلق عليه “حارة اليهود”، و”قاع اليهود” في مدن اليمن.

محطات من تاريخ اليهود المغاربة

ينقسم المغاربة اليهود إلى قسمين: (الطشابيم) أي أمازيغ المغرب قبل الفتح العربي الإسلامي، بعد اعتناقهم اليهودية، و(المغوراشيم)، ومعناها بالعبرية “المطاردون”، الذين هربوا من إسبانيا والبرتغال (الأندلس)، بعد طردهم من قبل الملكين فرديناند وإيزابيلا.

وخلال العصر الوسيط، اهتزت وضعية اليهود في المغرب أيضًا مع الفتح الإسلامي له عام 683م، ومحاولات تعريب شمال إفريقية، وقتها مثلت سيدة يهودية مغربية (الكاهنة) نوعًا من الرفض، حين تصدت للفاتحين العرب حتى الموت.

وكتب الباحث عبد الكريم بوفرة أن إدريس الأول عندما وصل إلى المغرب الأقصى، وجد فيها تشكيلة قبلية متنوعة؛ مسيحية، يهودية، ووثنية، وقام بتوحيد القبائل مؤسسًا أول دولة عاصمتها فاس، ومعه تم تحديد الوضعية الاجتماعية والدينية لليهود لأول مرة (أهل الذمة)، الأمر الذي انعكس بالإيجاب عليهم.

وهكذا أصبحت فاس عاصمة علمية للمغرب، ومركزًا إشعاعيًا للثقافة اليهودية، خصوصًا حينما ظهرت الإرهاصات الأولى للنحو والشعر العبريين، وبرز رجال الفقه اليهودي، كالحاخام إسحاق الفاسي، والفيلسوف الطبيب موسى بن ميمون، واستمر هذا المنحى الإيجابي مع الدولة المرينية.

مع حكام بني مرين، ازدادت أهمية اليهود في المغرب، وأغنى الأندلسيون منهم على وجه الخصوص الحياة الثقافية والفكرية، ما خولهم امتيازات اقتصادية واسعة لم يسبق لهم أن نالوا مثلها، قوّت من ارتباطهم بالأرض، وعمقت علاقتهم بإخوانهم المسلمين.

ترابط وصل حد المصير المشترك في السلم كما في الحرب، وهنا تخبرنا كتب التاريخ أن اليهود احتفلوا مع المسلمين بانتصار معركة واد المخازن عام 1578م، على الإيبيريين (إسبانيا والبرتغال).

ويجمع المؤرخون على أن اليهود عاشوا حياة استثنائية تحت حكم الدولة العلوية -باستثناء فترة حكم المولى يزيد- فمع هذه الأسرة الحاكمة لم يبق مجال إلا وحضر فيه اليهود المغاربة من السياسية (يهود البلاط)، والإدارة، إلى المال والأعمال، حتى ظهرت في المغرب بفضلهم نواة بورجوازية كان بإمكانها أن تحمل مشعل التغيير في المغرب كما حدث في أوروبا، لولا هجراتهم إلى فلسطين المحتلة.

هجرات اليهود المغاربة للدولة العبرية   

لقد كان عدد اليهود في المغرب 250 ألف يهودي في عام 1940م، لكنه تناقص حسب الكاتب السياسي المغربي اليهودي روبير أصراف؛ ففي عام 1961، غادر المغرب أكثر من 80 ألف يهودي نحو “أرض الميعاد”، رقم ازداد بفعل أثر صدى حرب الستة أيام (النكسة) على التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين، الذي وصل حد التصفية الجسدية أحيانًا، وبه انتقلت أعداد السكان اليهود بالمغرب ما بين فترة 1967-1971 من 60 ألف إلى 35 ألف نسمة.

هجرة أحكم تنظيمًا في آخر عملياتها بفعل إشراف “الموساد” والمنظمات الصهيونية العالمية كـ”الوكالة اليهودية” (الجهاز التنفيذي للحركة الصهيونية)، ليبلغ عدد من هاجروا واستقروا في إسرائيل حوالي 400 ألف نسمة خلال عام 1974م.

وهكذا تناقص عدد اليهود في بلدهم تدريجيًا، حتى وصل مستويات دنيا تقدر حاليًا بـ70 ألف شخص فقط، رفضوا الرحيل إلى إسرائيل، بل في الآونة الأخيرة لاحظنا هجرة عكسية من إسرائيل إلى المغرب، الذي اعتبر في دستور 2011 العبرية رافد من روافد هويته المتنوعة.

موقع اليهود المغاربة في إسرائيل

عانى في البداية اليهود المغاربة مع يهود الشرق عمومًا (السفاراد) من عنصرية يهود الغرب (الأشكناز) الذين حاولوا تغريب هوية الدولة، بعد أن أعلن عن ولادتها ديفيد بن غوريون، تلميذ ثيوردور هرتزل، عام 1948 قسرًا، ثقافيًا وحضاريًا؛ فمنذ أيامها الأولى، قدمت نفسها على أنها “دولة” حديثة، بنيت على الطراز الأوروبي معماريًا، كما صاغت قوانينها وتشريعاتها وفق العقلية الغربية بحكم امتلاكهم وحدهم للمال والسلطة.  

تمييز عنصري رفضه المغاربة الإسرائيليون بطريقتين؛ الأولى: اجتماعية تمثلت في خروج مظاهرات احتجاجية مثل تلك التي عرفت باحتجاجات “وادي الصليب” في مدينة حيفا، يوم 8/7/1959، عقب إطلاق الشرطة الإسرائيلية النار على مواطن عبري من أصل مغربي، والثانية: اتخذت منحى سياسي حين توغلوا في الأحزاب اليمينية لخلق لوبي سياسي يدافعون به عن مصالحهم، نكاية في اليسار الذي حملوه مسؤولية وضعيتهم المزرية.

وقد شكل اعتبارهم كمواطنين من الدرجة الثانية حافزًا على اقتحام عالم الأحزاب لإعادة ترتيب المشهد السياسي الإسرائيلي، وفق فهم جديد يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التي نجحوا في ربحها، والمعارك التي خاضوها من داخل المؤسسات السياسية “السفارادية” والدينية، مثل حزب “شاس” وأحزاب علمانية، ومن داخل الكنيسيت والحكومة.

مكتسبات جمة توجت بفوز “عمير بيرتس” اليهودي المغربي بانتخابات حزب العمل -الذي سيطر عليه “الأشكناز” منذ تأسيسه عام 1930- على رئيسه غير المنتخب شمعون بيريز، بكل ثقل ورمزية الرجل. وكان ذلك عام 2005، وهو ما اعتبره العديد من المحللين ثورة سياسية من طرف اليهود المغاربة.

ورغم هذا النجاح الكبير في السياسة، وفي كل القطاعات، ظل المغاربة هناك، متثبتون بالثقافة والهوية الأولى، من خلال إطلاقهم عشرات الأسماء المغربية على شوارع دولة الاحتلال، ومن خلال حرصهم على الحج سنويًا إلى مزارات دينية عديدة، ناهيك عن تعلقهم بالمطبخ المغربي والعرش العلوي، إضافة إلى دعم الرباط في قضية الصحراء، وقضايا أخرى كلما احتيج لثقل شخصيات يهودية مغربية نافذة تجاوز تأثيرها تل أبيب إلى العالم بأسره.

شخصيات يهودية مغربية مؤثرة دوليًا

عدد من القادة السياسيون والوزراء والفنانون الأكاديميون والإعلاميون والرياضيون وغيرهم هم من اليهود المغاربة، نذكر منهم:

  • أدري أزولاي: المديرة الحالية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ابنة أندريه أزولاي مستشار الملك محمد السادس، وقبله والده الحسن الثاني.
  • موردخاي فعنونو: عالم نووي إسرائيلي ولد عام 1954 بمدينة مراكش، تركت عائلته المغرب، واتجهت نحو إسرائيل عام 1963. واشتهر فعنونو بعد أن فضح معلومات تتعلق بالأسلحة النووية في إسرائيل.
  • يوسي بن عيون: نجم كروي ولد بمدينة أصيلا عام 1980، قادته موهبته مع نادي “هبوعيل بئر السبع” إلى حمل إشارة عميد المنتخب الإسرائيلي عام 2006، ثم احترف بفريق ليفربول عام 2010 بصفقة بلغت 5.5 مليون جنيه إسترليني.
  • إيــــلـي أشــــاي: ولد بمدينة فاس عام 1962، شغل منصب وزير الصناعة الإسرائيلي، وتزعم حزب شاس الديني المتطرف.
  • شـلومو بـنعمي: مؤرخ وأستاذ جامعي، ولد بمدينة أصيلة عام 1943، هاجر إلى إسرائيل عام 1956، تقلد منصب وزير الخارجية، وعين كسفير إسرائيل في إسبانيا سابقًا.
  • عمير بـيـرتس: ولد بمدينة أبي الجعد عام 1952، شغل منصبي وزير الجيش، ونائب رئيس الوزراء بين 2006–2007، وتولى عام 2013 وزارة حماية البيئة.
  • موريس ليفي: ولد عام 1942 بمدينة وجدة على الحدود المغربية الجزائرية، عضو المجلس المؤسس للمنتدى الاقتصادي العالمي، رئيس مجلس إدارة “مجموعة بوبليسيس الإعلانية”، أقوى شركة إعلانية في الشرق الأوسط، وثالث أكبر مجموعة إعلامية في العالم، بامتلاكها شركتي “ساتشي آند ساتشي” و”ليو بورنيت”، بالإضافة لـ”شركة ستاركوم”.
  • دومينيك ستراوس: تولى رئاسة صندوق النقد الدولي من 2007 إلى 2011، وكاد يصبح رئيسًا لفرنسا عام 2004 عن الحزب الاشتراكي، لولا خسارته بفارق بسيط أمام سيغولين رويال، التي خسرت بدورها أمام نيكولا ساركوزي.